الجمعة، يوليو 09، 2010


لم أكن أحبّه!

عندما كنا صغارًا كان باسمًا دائمًا.
ربما لأنه، كان يشرب الحليب في كل صباح،
لهذا لم أكن أحبّه !
أغص في حضرته بكوب المرض،
كنتُ أشعرُ بالدونية،
كان يأخذ هئية ذلك الشعور أكثر، كلما رأيته يجلس في أحضان أبي،
تلك التي أعتدتها لي.
يتغلل فيها تساؤلًا،
كلما سمعتهم في كل مكان، يشيدون بإبتسامتهِ المضيئة،
ويتركون بوجهي كلمة سحيقة تنص أني جامدة حيال الأشياء، كل الأشياء، حتى هم!
كنتُ أستفزه، كنت أحاول إزعاجه دائمًا!
لكننا في كل مرة نصل إلى نتيجة واحدة،
هي أنني، أنا أغضب، وأصرخ، وأجن،
بينما يجلس هو في كل مرة هادئًا ينظر إليّ،
في  أحد الليال
تجرأت على ضربه،
خربشت وجهه وساعديه بأضفاري،
كنتُ أفرغ كلّ مشاعري المكبوتة في جسده الصغير حينها.
لم يفعل شيئًا، قصد سريره باكيًا وغطى وجهه،
وقصدت سريري المركون قريبا وأنا أتوجع، أتوجع لأجله،
لا أعرف من أخبر أمي،
التي أنتزعتي من أغطيتي ودموعي وهي غاضبة،
شدّتني من ذراعي بقوة،
وأخذتني للمطبخ،
اشعلت نار الموقد،
وقالت بأنها ستحرق لي أصابعي الخمسة!
أمسكتني بيد واحدة
وتناولت بالأخرى حديدة وشرعت في أحمائها،
في تلك اللحظات القليلة،
كنت أختلج، أرتبك، اتجمد،
أتذكرُ قصة روتها ذات يوم، أن أباها أحرقها في ساعدها عمدًا عندما كانت طفلة،
أحرقها دونما أسباب واضحة،
كنتُ أفكرُ، لماذا نُعيدُ بعث أوجاعنا لأبنائنا أيضًا؟!
لماذا تريدُ أمي أن تهبني كلّ ما أدركته من وجع، وراثيًا وعمليًا، على مستو حياة !
هل يستحق ما فعلته عقابًا هائلًا كهذا؟
في تلك الوهله كنت أشتهي أن أقول بأنني مريضة،
مريضة خارج جسدي أيضًا، وبأنني فقط أشعر بقهر دفين أحتاج التعبير عنه ولاأكثر!
لكنني لم أقل شيئًا،
كنت أنصت لوقع خطواته وهو يركض،
كنت أراه وهو يقتحم الباب بوجه شاحب، ثم يبعد يديّ أمي عني بدّهشة،
يقول لها: لا تعاقبي زينب! ، أنا سامحتها!
كلماته تلك،
اطفئت نار الموقد،
أفلتني من رعب لا أستطيع نسيانه ألبتة.
أعادتني إلى وسادتي،
دون حروق،
كسرتني صوتيًا للداخل،
انطويت كثيرًا،
صرّت أتحاشاه،
لا أتحدث معه،
خجلًا، حُزنًا ، لا أدري،
لكنني بقيت هكذا لمدة ثلاث سنوات،
كبرتُ فيها، فهي ذاتها تمامًا سنيّ المدرسة المتوسطة،
وتلك الليلة كانت بقية ليال الصف السادس الإبتدائي ولا أكثر.

عندما أصبحت في سنتي الثانوية الأولى،
كنت أسهر أنا وأختي التي تكبرني بعام، كنت أسهر حتى الصباح،
قصدنا ذات ليلة، بعد صلاة الفجر،
قصدنا بصنية شاي، وخبز ولبنة وزيتون،
وإبتسامة لا تكسر جمالها العادة، ولا تأخذ من إضاءتها السنين،
جلس إلينا،
يثرثر بإريحية،
سكب لي كوبًا من الشاي،
فبادرته بالكلام،
حكينا كثيرا ،
ذلك الصباح،
عرفت عنه تفاصيلًا جمة،
عرفت أنه يكتب الشعر،
وأن له صديقًا أستاذًا،
وأنه شغوف برياضته وصحته،
وأنه يتابع الأخبار السياسة والأقتصادية والأسهم!
وأنه يحبّ تصفح الشبكات الثقافية،
وأنه يفضل دائمًا أن يقرأ مقالات أو قصص خفيفة،
لأنه يعاني من عدم قابلية إتمام كتاب ورقي بسرعة أو شهية جيدة!
وأنه يريد أن يُصبح طبيبًا نفسيًا ،
لأنه يحب فلسفة النفس الأنسانية، وآلية تعاملها مع الأشياء !
رقت تجاه كثيرًا،
مددتُ خيوطًا من الود،
وبقيت أتعامل معه بمحاذاة التفاصيل،
كان للتو يبدأ تعلم القيادة،
شيء من أشياء عززت أتصالي به،
أشعرتني بحاجة إليه،
كان يقضي إليّ حوائجي،
يصحبني إلى المكتبة،
لأفرغ رغبتي في إقتناء الإلوان،
تمامًا، لأبذر مصروفي الشهري كاملًا،
دونما جدل!


تبقى الأشياء تمرّ بيننا جميلة، كما لا تمرّ،
أصيرُ أستاذتهُ الّتي يسألها عن كلّ ما يستغلق عليه في اللغة،
يصيرُ أستاذي الّتي أدمن إلهامه بمسائل فيزيائية،
هو الذي يصغرني بعام دراسي كامل،
لا يتوانى عن إستقبالي كلما قصدتهُ بكتاب وقانون بعيد،
ينصتُ إليّ بعينين لامعتين،
اشرح له أفكار الدرس الأولى،
وأمد إليه أوراقي، محاولاتي التي يتصفحها بجانب ما قصدته به،
يتصفحها تماما بمسودة يكتب فيها،
يأخذُ رشفة من الشاي،
يدرج الأرقام في آلته الحاسبة، التي تلصق دائمًا بيديه اليسرى،
وأنا اتأملهُ وأصمت!
وفي كل مرة يسحب فيها القلم إلى الأمام ويبتسم وثم يعيد وضع نظارته،
أتخيل أنه يجذبُ ضوءا ذكيًا عارمًا جدًا،
يقول: لو ...
وينساب عليّ بالحلّ !


تفاصيل الحياة، لا نتنهي بعدُ هُنا،
ولا في أية مكان!
... لكن بقي في قلبي أن أكتبَ ما أكتب.


هناك 7 تعليقات:

  1. رائعٌ جداً كما عهدتكِ، أستمتعت بقرآءة تدرج الحكاية معه منذ الصغر وحتى الكِبر.
    لكن، شعرت بقسوة أمكِ بكل مافيها من الحنان و العطف الذين أرهما فيها دائماً..
    لم أرتح لذلك كثيراً،تجعلينني أنحازُ ضدها و هذا يؤذي، تظلّ أمكِ عزيزتي..

    واصلي، أتلهف لقرءة المقالات الشخصية منكِ خاصة، تكون أقل تركيزاً و أكثر توازناً من المقدمة وحتى الخاتمة.


    واصلي عزيزتي ف5

    ردحذف
  2. جيدٌ أنّها في تدّرجها ، راقتكِ عزيزتــي،

    ممــ ،
    حقيقة تظلُّ أمي الّتي أحبُّ كثيرًا،
    وأبقى أيضًا أنحازُ ضدّها بحبٍّ لامُتوقع،
    صقلتني قسوتها تيك،
    بالرغم من أني أتعرّضُ لمواقف كالتي تقرأين،
    لكنني أشعرُ أنها في كلّ مرّه تحرض شيئًا للعفو،
    أو ينزلُ لقلبها ما يمنعها،
    ... كالذي حدّث هُنا تمامًا.


    آ..
    أتمنى عليكِ أن توضحي لي رؤيتكِ للتركيز والتوازن ؟!
    لما ألاحظ عن أيه مقدمة أو خاتمة تقصدين ؟

    تحية طيبة لكِ .

    ردحذف
  3. أعني أن المقالات الشخصية، تكون طويلة فلا تتركز الفكرة في سطر واحد كما الـ ق.ق.ج!

    فتكون الفكرة متوازنة على جميع النص منذ البداية وحتى النهاية


    :)

    ردحذف
  4. أردت الوصول باكراً لكن زهراء سبقتني

    رغم أني بحت لك بانطباعي إلا أني أحببت أن أبصم لك هنا بإعجابي

    أنتظم المزيد عزيزتي :)

    ردحذف
  5. أعتقدُ أنّ للنص الجيد أن يحمل فكرتهُ المتوازنة، بإختلاف تركيزها ..كيفما كان تدّرجه.
    وأن التركيز ذاك تمامًا، يتأثرُ بالمدى الذي تتوزع فيه الكلمات، فهو يتحشدُ في الكلمات القصيرة لـ ق.ق.ج !
    بينما يأخذُ مساحة إنسابية، ومتسعة أكثر في المقال الشخصي، ولعلّ هذه النقطة هي ما يشدّكِ بالتحديد .

    ياسمينة للروح، جميلتي .

    ردحذف
  6. لا بأس ، تبقى مساحة هُنا،
    تحتضن بكن الجمال،

    تحية لكِ / خديجة طاهر .

    ردحذف
  7. أنا أحسست بهذا فأحببت أن أُخبرَكِ بهـ..
    أحسست بإحتضانكِ للحكايه وللقارئ أيضاً, كما لو أنكِ تمسحين بكفيكِ على منكبيه(أعني القارئ)وأنتِ خلفهُ وتهمسين في أذنهِ: عزيزي أكمل قراءة ما بدأت به مما خطت يداي,,
    لكنه بإسلوبٍ(إسلوبكِ) مخملي لا يسعني الوقت لوصفه,,

    ردحذف